يبدو أن الحركة الاحتجاجية في المغرب مدينة في روحها وأفقها لتراث نضالي، لا يرتبط بفترة محددة، ولا ينزع نحو المعجزة؛ بمعنى أنه استمرار وامتداد للثقافة النضالية التي أرسى قواعدها العديد من الفاعلين السياسيين والثقافيين، وحاولوا وفقا لسياقات تاريخية حلحلة الوضعية العامة، و تسطير كيفية مواجهة عراقيلها في تأبيد وضعية ما، أو الانتصار للثقافة المخزنية والسلطوية الكابحة للتغيير والتغير، والرامية بوسائلها الخاصة إلى فرض تأويل محدد لمختلف القوانين والأطر الدستورية المنظمة لمختلف مناحي الحياة، على الرغم مما قد تشي به الحصيلة التحديثية التي عاشها المغرب طيلة سياساته التنموية الفاشلة، لسبب رئيس هو أن المشروع التنموي استهدف الهاجس التقني، وغيب الأسس الثقافية والفكرية والعلمية الصانعة للمشروع التنموي، فالإمعان في فرض المقتضيات التحديثية خارج النسق الثقافي و المشروعية العلمية والفكرية، ولد حصيلة ضحلة إن لم تكن خطوة للوراء في البعد التنموي و شروطه، ما دام التعاقد الاجتماعي والسياسي الضامن لذلك مغيب لأجل غير مسمى، لأن العملية السياسية مبنية على أرضية قوامها التحايل والخداع السياسي بعيدا عن الاقتناع الحقيقي و إرساء دعائمه المتينة، مع ما ينضاف لذلك من وجود بيئة يسودها العنف، الذي يعد العائق الأكبر لبروز المواطنة، وهذا العنف يستمد من مرجعيات تاريخية تارة باسم الإجماع و تارة باسم الشرعية، لكنها خارج أي تعاقد تنموي أو سياسي أو ثقافي ، بقدرما هي مرهونة بإعادة إنتاج الخضوع الاجتماعي (المفهوم الجديد للسلطة)، من خلال الحرص على التفاني في الولاء والافتتان بالسلطة، وهذه العملية تسهم في تدمير دافعية الفعل لدى الشعوب، وتتسبب في إنتاج اقتصاد نفسي يبدد طاقاته في خدمة علاقات السلطة، عوض الانشغال بهموم التنمية الاجتماعية والتحرر الاجتماعي والحقوقي والثقافي من براثن الاستعمار الايديولوجي والمادي والرمزي للقوى الكابحة الداخلية منها و الخارجية.
منذ أفول المجتمع ما بعد الصناعي وبروز مجتمع المعرفة والثقافة والاتصال، فقدت الحركة والطبقة العمالية مكانها للفاعلين الجدد ( الطلبة والنساء والحركات النسائية و المجموعات العرقية واللغوية )، أضحى دور الكتلة العمالية في أحسن الأحول التحسيس البارد بالقيم المادية لمجتمع تحول "براديغم" اشتغاله، وانتقل من هاجس الارتباط بالمطالب الطبيعية إلى مراتع المطالب الرمزية المسكونة بالنزعة الهيومانية وأفقها الكوني، في وقت ظلت الحركة الاجتماعية الاحتجاجية أسيرة نضال جاف لا يعير اهتماما للتغيرات والتحولات الطارئة على الأنساق الاجتماعية وكيفية صياغة مقومات وجودها؛ فالمعروف أن الحركات الاحتجاجية انتقلت في مسارها النضالي من مقومات الوجود المادي ( السكن ـ العيش ـ التعليم )، إلى البناء الرمزي للذات والفضاء من خلال التركيز على القيم الما بعد حداثية ( الكرامة ـ العدالة ـ المواطنة ـ حقوق الإنسان في جيلها الرابع ـ التنمية المستدامة ) ، حسب ما يؤكد ذلك رونالد انجلهارت في كتابه الثورة الصامتة.
ولعل من بين المفاهيم الاجتماعية التي اكتست قيمة كبرى في الأحداث الاحتجاجية الأخيرة في المغرب ، مفهوم " الحكرة " باعتباره قيمة اجتماعية سالبة للمواطنة والمساواة، وتركيز التراتبية في تدبير الحياة اليومية انطلاقا من استعلاء سلطوي وجهوي وإقليمي، وبوساطة ثقافة تسلطية تتجاوز القيم الرمزية والمادية لروح الوثيقة الدستورية، والتي تبين من بعد فترة وجيزة أنها مجرد إجراء تقني لجسر الهوة بين السلطة والمجتمع وليس مؤسسات الدولة، وأسلوب حربائي يراد من خلاله تحديث الحياة السياسية، وتأثيث فضائها إعلامياً بالقول السياسي فقط ، في وقت تشي به مضامين الفعل السياسي والمخزني بالفقر في تمثل هذه الوثيقة، وتنزيلها التنزيل الأسلم لوضع لبنات الثقافة المؤسساتية ودولة الحق و القانون .
عادة ما تقاس السلوكات والأحكام الأخلاقية بدرجة التطابق والانسجام مع القواعد التي يفرضها المجتمع، و أي شذوذ أو تباين بين المعيار والفعل يفضي إلى تعفن في البنية الذهنية ، ومن ثم في الفعل المرافق له ، لذلك تحبل الحياة الاجتماعية في المغرب بالعديد من المؤشرات الدالة على هذا النزوع، والذي ينتج سلطة فاقدة للشرعية والمشروعية بالنظر إلى مرتكزاتها الخاصة في تدبير الصراع والاختلاف، وإقبار صراع التأويلات، إلى فرض " الأنا " الخاصة في تدبير مقتضيات الصراع ليس من أجل التقنين والتأطير، ولكن من أجل تأبيد التسلط و تسويق نموذجه الخير.
بالمقابل ؛ لم تصل الحركة الاحتجاجية إلى درجة التغلغل وسط الجماهير الواسعة بما يمكنها من عملية الحشد الشعبي، واقتصرت فقط على نخبها الناشطة والداعمة، وكأنها تعيد إنتاج الأخطاء نفسها التي راكمها اليسار في قيادة الحركة الاحتجاجية ، إذ لم يسلم برنامجه من ثقافة الخلاص وإجبار الواقع لخدمة الفكرة، عوض الانطلاق من الواقع إلى الفكرة لإنجاز مهمة التغيير بهدف الوصول إلى التغير، إذ الثورة ثورة عقل ورؤية وليست ثورة دم و شعار، كما لم تصل هذه الحركات إلى درجة العصيان المدني كقيمة وخطوة نوعية للاحتجاج حسب التفسير العلمي للحركات الاحتجاجية، فقد يعزى ذلك إلى تباين أطياف الحركة من حيث المرجعية، و من حيث تنشيطها للفضاءات الواقعي منها والافتراضي، وإن أبدعت في نحت أشكال مختلفة من التعابير التي تظهر في شكل شحنة ناقلة للتعبئة المواطنة والفعل الاحتجاجي المزمع القيام به، فلا يكفي إعلان العصيان المدني في بوعرفة ومراكش وطنجة من خلال رفض أداء فواتير الماء والكهرباء لعدة أشهر حتى نتكلم عن عصيان له مقومات النجاح، فقد ظل فقيرا من حيث الإبرام والحبك ومن حيث سقف المطالب والانسجام في التركيبة البشرية و الأفق النضالي، ما دام الواقع المغربي يتمايز بتمايز مكوناته وتعقد خيوط اللعبة التحكمية فيه.
استطاعت الحركة الاحتجاجية أن تجد لها موطئ قدم دالاً في رفض الإدماج الايديولوجي و المؤسساتي للنظام، مما قد يقوي من شرعيتها الاجتماعية ويخفض من منسوب لاشرعيتها في التدجين والاحتواء، وتهميش الدور الطبيعي الموكول لها، بشكل قد يحولها إلى مستفيد مرحلي عوض أن تكون فاعلا حاسما في تبديد معالم الاهتراء الذي طال الحركة الحقوقية بشكل عام، وجعل منها "جمعيات" باردة في التعاطي مع القضايا الاجتماعية والتنموية المستعصية، لأن الاحتجاجات التي كان ولا يزال يرخص لها بالنزول إلى الشارع هي الاحتجاجات المتعلقة ببعض القضايا العربية منها خاصة الفلسطينية والعراقية. لذلك الحركة مطالبة بالرفض الصريح لنظام القيم الخاص بالسلطة وفضح نموذجها المجتمعي الزبوني الذي أسهم في تأجيج العداءات والقطائع، التي طبعت علاقات سلطة الدولة وواكبت أفولها الوطني و انحرافها في إقامة نظام اقتصادي واجتماعي وسياسي قادر على فرض ميكانيزمات مأسسة الصراعات، بطريقة جعلت التجربة الوطنية في صيغتها الحالية ونقصد ما بعد دستور 2011 قائمة على أساس الهيمنة والتحكم المخزني بمختلف أطيافه، وتعفن الخطاب الديني في قالبه المقدم من طرف الحزب "الحاكم".
هذا ما يفترض في سياق موازي الاشتغال نوعيا على وسائط التفاعل الاجتماعي، وتحويلها إلى منبر للالتزام بالقضايا الاجتماعية والإنسانية والإسهام في تحقيق التنمية الشاملة و المستدامة، وإشعاع ثقافة المنفعة العامة، خاصة وأن وسائل الإعلام والاتصال تعمل جاهدة على الحفاظ على مركزها في السوق أكثر من رغبتها في تربية الجماهير على المواطنة، ما دام أنها لا تنفصل قيد أنملة عن طابعها الاجتماعي على غرار الأسرة و المدرسة والمقاولة و الإدارة في ممارسة وظيفة التثقيف والتربية والتحسيس والتوجيه والتنشئة والتعبئة ، بإيعاز من تنامي عجز الدولة ـ بإرادة مفضوحة ـ عن الانخراط في مشاريع إعلامية مجتمعية تعمل بموجبها على إعداد وتنفيذ وإدارة البرامج التواصلية ذات المنحى والبعد الاجتماعيين.